في زمن الخيبة العربيّة، تربينا ذات براءةٍ على أشعار تَستجمع ما تبقّى فينا من أشلاء أمل عصفتْ به الهزائم العربيّة المتكرّرة، وقبل أن يحتضرَ في أقاصي أرواحنا المنهكة ظلمًا وجهلاً انتشلتها كلماتٌ سكنتنا قبل حتّى أن نسكنَ أوطاننا. حتمًا، أذكرُ ذلكَ الزمن الجميل الذي كنّا فيه نتدارسُ في كتب القراءة أشعار : محمود درويش، أحمد مطر، سميح القاسم، كنّا على صغر سنّنا نحترم قصائدهم حتى إنْ سُئل أحدهم يومًا عن اسم شاعر عربيّ، وإن لم يكن من محبّي الأدب العربيّ، أو حاقدًا على الثقافة العربيّة ذكر أحد أولئك الثلاثة كحالة استثناء إنسانيّة تجاوزتْ حدود الذات لتستقر في فضاءاتِ المطلق الإنسانيّ وتبعثُ لكلّ نفس تواقةٍ للحريّة شغفها.
تباعًا إذًا، أولئكَ الذين علّمونا يومًا ما معنى العيش من أجل قضيّةٍ غادرونا، قبل حتى أن يشهدوا كلماتهم تتحوّل لواقع؛ زادتْ الأوضاع سوءًا، ولم يتغيّر في العالم العربيّ شيءٌ، فمنْ محاربة الاستدمار، أصبح العرب الآن يحاربون بعضهم، ويتربص بعضهم بنجاح بعض فيحرص كلّ منهم أن يبقى الآخر في التّخلف. مات إذًا سميح القاسم آخر أولئك الذين في كومة من الخيبة رفعوا مشعل الأمل محاولاً كتابة تاريخ عربيّ جديد، لكنّه غادر قبل حتّى أن يُعبّر له العرب عن أسفهم، لأنّهم خيّبوا شعره وأدبهُ. وككلّ شيء تعلّمناه من التاريخ العربيّ، فإنّ ما يذهب لا يعود ولا يعوّض؛ فليس هناك شعراء شباب جدد يسدّون الفراغ الأدبيّ الذي تركه شاعر من حجم سميح القاسم الذي عزف قيثارة من الحزن الشّامخ من أجل أن يبني مجد أمّةٍ ويسقي أرواحًا عطشى للحريّة والأمل.
سميح القاسم الذي بعث بـ” رسالة الى غزاة لا يقرأون ” ذات انتفاضة في فلسطين، غادر لكنّ رسالته مازالتْ لتعيش أكثر بين ثنايا التاريخ وهي اليوم تُخاطب الجنود الإسرائيليين في غزّة، فوحدهم الشّعراء لا يموتونَ لأنّ كلماتهم تُخلّدهم فيُذكرون مع كلّ ألمٍ أو مشروع أمل أو حريّة أو لحظةِ ظلمٍ، وكأنّه بموته في هذه الأيّام بالتّحديد ذلك الرّجل الغارق في الأحزانِ ، يعيد كتابة رسالته التي يستفزّ فيها إسرائيل ويذكّرها بأنّ فلسطين على الرّغم من كلّ شيءٍ لا تستسلم. ولأنّه امتطى يومًا صهوة الحرف، فإنّ الحرف اليوم حزين يرثي منْ كان له مخلصا يومًا وداهمه الموتُ قبل أن يكتبَ شعرًا أكثر فرحًا لواقع عربيّ أفضل. وهناك بعيدًا في أراضي 48، شجرة الزيتون سترثيه من أجل ذلك السّلام الضائع. في الكتب، سترثيه الأبجديّة العربيّة منذهلةً؛ ذلك الذي حمل مشعل الإبداع والمقاومة عنوناً لتجربته الأدبيّة ؛ فاتخذ الكلمة سلاحًا يُحارب به المستعمر، الكلمة التي وحدها لا تموتُ.
متأسّفًا لله، كان سميح القاسم ذات وجع يشكو لله أحزانه وشقاءه وضياعهُ، يشكو إلى الله من طردوه من بيته، وجعلوا أرضه مقبرة لا حياة فيها، وقتّلوا من آمنوا. مات الرّجل الذي حارب الظلم بحرفٍ، لكنّ كلماته مازالتْ لتعيشَ مع كلّ جيل يأتي بعده .

One comment on “صاحبُ رائعة ” أنا متأسّف ” يرحلُ

  • انه ومن دون مجاملة مقال رائع يتسم بالعمق في معالجة الموضوع واحداث نوع من المقارنة بين ماض مفعم بقصائد الامل والمقاومة وحاضر تشوبه الخيبة والضياع

اترك رداً على إبتسام إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *