نشرت جريدة “دايلي ميل” دراسة صادمة قام بها الباحثون في 2017م بجامعة كارولاينا الشّماليّة أكّدت أنّ تغيّر المناخ سيؤدّي إلى وفاة 260 ألف شخص على مستوى العالم بحلول عام 2100 بسبب تلوّث الهواء. إنّ هذا الأمر المخيف يدفعنا للتّساؤل عن علاقة المناخ بصحّة الإنسان. في واقع الأمـــر، تهتمّ منظمة الصّحة العالميّة برصد أهمّ تأثيرات تغيّر المناخ على صحّة الإنسان، وحسب موقعها الرّسميّ فإنّ الارتفاع الشّديد في درجات الحرارة النّاتج عن التغيّر المناخيّ يتسبب بشكل رهيب في حدوث الوفيات النّاتجة عن الأمراض القلبيّة الوعائيّة والأمراض التّنفسيّة وخصوصا بين المسنين، فعلى سبيل المثال سجّلت 70000 حالة وفاة إضافية أثناء موجهة الحرّ التي حدثت عام 2003 في أوربا. كما تشير إحصاءات منظمة الصّحة العالميّة أنّ ارتفاع درجة الحرارة يؤدّي إلى ارتفاع ملحوظ للمواد المسببة للحساسيّة في الهواء ما يسبّب الإصابة بالرّبو الذي يعاني منه حوالي 300 مليون شخص تقريبا، ومن المتوقع أن يزيد العدد بسبب التغيّر المناخيّ. والواقع حسب قناة الجزيرة أن الإحصاءات قاتمة، فقد تسبّب تلوّث الهواء في أكثر من سبعة ملايين حالة وفاة مبكرة -أي واحدة من كل ثماني حالات على مستوى العالم- في عام 2012، مقارنة بنحو ستة ملايين حالة وفاة مبكرة بسبب التّبغ.

منذ القديم ارتبطت حياة الإنسان بمناخه فكان المناخ صديق الإنسان وحاضنته الأولى التي يعيش فيها فيكوّن معها شعورا روحيًّا، إنّه يمثّل بالنّسبة له جزءًا لا يتجزّأ من موطنه الأرض، لذلك أصبح الإنسان يتأثر بالمناخ حتى في جوانبه الشّخصيّة، فقد تحدّث ابن خلدون أنّ المميزات النّفسيّة للشعوب التي تعيش في الأماكن الحارّة تختلف بالضرورة عن نفسيّة الأشخاص الذين يعيشون في الأماكن الباردة، بل ويتعدّى الأمر الجانب النّفسي ليشمل التّركيب الجسمانيّ؛ إذ بطبعه يؤثّر المناخ في طبيعة تكوين الإنسان النّفسيّة والجسمانيّة. من هذه الفرضيّة التي أقرّها ابن خلدون منذ قرون، أصبحت علاقة الإنسان بمناخه الطبيعيّ علاقة وطيدة تتميّز بالتّأثير والتأثّر، وتذهب منظمة الصحة العالمية أبعد من ذلك حينما تؤكّد أنّ حدوث الكوارث الطبيعيّة النّاتجة عن التّغيّر المناخي يؤدّي إلى حدوث الاضطرابات النّفسيّة التي تنتج عن تغيير النّاس لمكان إقامتهم.

كما تشكّل الأمراض المعدية مثل الملاريا إحدى التّهديدات التي تحوم بحياة الإنسان، بسبب التغيّر المناخي نظرا لحدوث تحول في أنماط الأمراض المحمولة بالنّواقل، التي تشكّل خطرا على الحياة مثل الملاريا،  في حين ترى منظمة الصحة العالميّة أنّ أكثر البلدات عرضة لهذه الأخطار هي البلدان النّامية؛ إذ تشير تقديرات عام  2012 م_حسب تقرير أعدته الجزيرة_  إلى أنّ 88% من الوفيات المرتبطة بتلوث الهواء تحدث في البلدان منخفضة إلى متوسطة الدخل، والتي تمثّل 82% من سكان العالم. وتتحمل منطقة غرب المحيط الهادئ ومنطقة جنوب شرق آسيا عبء 1.67 مليون وفاة، و936 ألف وفاة، على التوالي. وأكبر فئة ستتأثر بتداعيات التغيّر المناخيّ الصّحيّة هي فئة الأطفال والمسنين، لأنّهم الأقلّ مناعة على الإطلاق، وقد صرّحت المديرة  العامة لمنظمة الصحة العالمية مارغريت تشان على الموقع الإلكتروني للمنظمة بأنّ “تغيّر المناخ سيؤثر تأثيراً سيئاً للغاية على بعض من أهمّ المحددات الأساسية للصّحة، وهي الغذاء والهواء والماء”، وتعتبر هذه العناصر ضروريّة في حياة الإنسان ممّا يجعلها تؤثر بدرجة كبيرة على صحّته.

ويشير نجيب صعب رئيس تحرير مجلّة البيئة والتنمية إلى أنّ الأبحاث المحدودة التي أجريت في البلدان العربيّة أثبت تأثير التغيّر المناخي على الشعوب العربيّة فقد تسبب في انتشار الأمر الأمراض المعدية التي تحملها الناقلات، مثل الملاريا والبلهارسيا (مصر، المغرب، السودان). وبهذا يُرجّح أنّ الملاريا التي تصيب نحو 3 ملايين فرد في الإقليم العربي ستعرف انتشارا أكثر وتزايدًا في عدد المصابين في المنطقة العربيّة، بسبب تغيّر المناخ. كما تسبب في انتشار كثير من الأمراض التنفسية نظرا لتسهيله انتشار كثير من المواد المثيرة للحساسيّة في الغلاف الجوّي ما تسبّب في انتشار رهيب لأمراض الحساسيّة والأمراض الرئويّة في لبنان والإمارات والسعوديّة. وحسب تقرير أعدته قناة الجزيرة فإنّ أحد أكبر أسباب الأذى الجسيمات الدقيقة التي تسمى (PM 2.5)، والتي يقل قطرها عن 2.5 ميكروميتر. فهذه الجسيمات تعيث فساداً لأنها تسافر إلى أعماق بعيدة داخل الرئتين، وتسهم في الإصابة بالالتهاب والسرطان وعدوى الجهاز التنفسي، أو تمر إلى مجرى الدم، حيث قد تتسبب في إحداث تغييرات في الأوعية الدموية، وتؤدي إلى الإصابة بالنوبات القلبية والسّكتات الدّماغية.

لقد حاولت الدول العربيّة على مرّ العصور تكييف استراتيجيات بسيطة وغير مدروسة بدقة من أجل مواجهة مختلف التّحديات المناخية التي تواجهها، لكنّ إسهاماتها في مجال مكافحة التغير المناخيّ من أجل الحفاظ على صحة الأفراد تبقى ضئيلة، لذلك ينبغي على البلدان العربيّة دقّ ناقوس الخطر، ووضع خطّة مستعجلة واضحة المعالم من أجل نشر الوعي بمدى خطورة التغيّر المناخي على صحّة الإنسان، من أجل تكريس المكافحة الذّاتية أوّلاً ثمّ محاولة مكافحة الظاهرة، عن طريق مشاريع متكاملة تشرف عليها هيئات بإشراف، ومتابعة من هذه الدول بحدّ ذاتها. وينبغي توعية الأطفال بمخاطر التغيّر المناخيّ باعتبارهم الجيل الذي سيحمل مشعل البناء مستقبلاً، فعلى الدول العربيّة محاولة تكوين جيل واعٍ بالمخاطر الصّحيّة للتغيّر المناخي، وساعٍ إلى مكافحتها. إنّني أعتقد أنّ الوعي بهذه المخاطر هو الجزء الأهمّ فيه هذه الخطّة الاستراتيجيّة التي ينبغي على الدول العربيّة رسم معالمها لمواجهة التحديات الجديدة التي يطرحها التغيّر المناخيّ. ولابدّ أن يتمّ تنظيم عمليّة التوعية من خلال تحديد محاورها وتزويد المهتمين بالتوعية بشتى التسهيلات، وتسخير مختلف الأبحاث الحديثة لهم من أجل أن يقوموا بمهمّتهم على أكمل وجه. وتشير منظمة الصحة العالمية ضمن هذا الصدد أنّه ينبغي على صناع القرار أن يدركوا قيمة الفوائد الصحية المترتبة عن تغيّر المناخ، كما أنّ التّكلفة الناجمة عن مكافحة تغيّر المناخ ستكون أقل من التكلفة الناتجة عن علاج الأمراض، التي يتسبب فيها التغيّر المناخيّ ولهذا فإنّ الوقاية من آثار التغيّر المناخي أفضل من علاجها.

One comment on “الصّحة السّليمة في المناخ السّليم

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *